ماذا تصنع في اللقاء الأول؟!د. محمد العريفي
أذكر أني لما تخرجت من الجامعة وتعينت معيداً في إحدى الكليات أوصاني معلم قديم قائلاً: في أول محاضرة لك عند الطلاب شُدَّ عليهم وانظر إليهم بعين حمراء حتى يخافوا منك وتفرض قوة شخصيتك من البداية.
تذكرت هذا وأنا أكتب هذا الباب فأيقنت أن من الأمور المقررة عند جميع الناس أن اللقاء الأول في الغالب يطبع أكثر من 70% من الصورة عنك وهي ما يسمى بالصورة الذهنية.
وأذكر أن مجموعة من الضباط كانوا في دورة تدريبية وكانت الدورة في التعامل الوظيفي وفي أول يوم حضروا إلى القاعة مبكرين جعلوا يتحدثون ويتعارفون.
وفجأة دخل عليهم المدرس فسكتوا.. فوقعت عين المدرس على طالب لا يزال متبسماً فصرخ به: لماذا تضحك؟ قال: عذراً.. ما ضحكت. قال: بلى تضحك.
ثم جعل يؤنبه: أنت إنسان غير جاد.. المفروض أن تعود لأهلك على أول رحلة طيران.. لا أتشرف بتدريس مثلك.
والطالب المسكين قد تلون وجهه وجعل ينظر إلى مدرسه ويلتفت إلى زملائه ويحاول حفظ ما تبقى من ماء وجهه، ثم حدق المدرس فيه النظر عابساً وأشار إلى الباب وقال: اخرج.. قام الطالب مضطرباً وخرج.
نظر المدرس إلى بقية الطلاب وقال: أنا الدكتور فلان سأدرسكم مادة كذا ولكن قبل أن أبدأ الشرح أريدكم أن تعبئوا هذه الاستمارة دون كتابة الاسم ثم وزع عليهم استمارة تقييم للمدرس فيها خمسة أسئلة :
1- ما رأيك بأخلاق مدرسك ؟.
2- ما رأيك بطريقة شرحه ؟.
3- هل يقبل الرأي الآخر ؟.
4- ما مدى رغبتك في الدراسة لديه مرة أخرى ؟.
5. هل تفرح بمقابلته خارج المعهد ؟.
كان أمام كل سؤال منها اختيارات: ممتاز.. جيد.. مقبول.. ضعيف.
عبأ الطلاب الاستمارة وأعادوها إليه فوضعها جانباً وبدأ يشرح تأثير فن التعامل في الجو الوظيفي ثم قال: أوه! لماذا نحرم زميلكم من الاستفادة.. فخرج إليه وصافحه وابتسم له وأدخله القاعة.
ثم قال: يبدو أنني غضبت عليك قبل قليل من غير سبب حقيقي لكني كنت أعاني من مشكلة خاصة أدت بي أن أصب غضبي عليك.. فأنا أعتذر إليك فأنت طالب حريص، يكفي في الدلالة على حرصك تركك لأهلك وولدك ومجيؤك هنا.
أشكرك بل أشكركم جميعاً على حرصكم ومن أعظم الشرف لي أن أدرس مثلكم ثم تلطف معهم وضحك قليلاً.
ثم أخذ مجموعة جديدة من الاستمارات وقال: ما دام أن زميلكم فاته تعبئة الاستمارة فما رأيكم أن تعبئوها كلكم من جديد.. ووزع عليهم الأوراق فعبئوها وأعادوها إليه.
فأخرج الاستمارات التي عبئوها في البداية وأخرج الأخيرة وجعل يقارن بينها.. فإذا الخانة الخاصة بـ " ضعيف " في التعبئة الأولى كلها مليئة، أما الثانية فليس فيها ضعيف ولا مقبول أبداً.
فضحك وقال لهم: كان ما رأيتم دليلاً عملياً على تأثير التعامل السيئ على بيئة العمل بين المدير وموظفيه، وما فعلته بزميلكم كان تمثيلاً أردت أن أجريه أمامكم لكن المسكين صار ضحية، فانظروا كيف تغيرت نظرتكم بمجرد تغير تعاملي معكم.
هذا من طبيعة الإنسان فلا بد من مراعاته خاصة مع من تلتقي بهم لمرة واحدة فقط.
كان المعلم الأول صلى الله عليه وسلم يأسر قلوب الناس من أول لقاء؛ ففي إحدى الأيام أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله مالاً فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قطيعاً من غنم بين جبلين.
فرجع الرجل إلى قومه فقال: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة، قال أنس: وقد كان الرجل يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يريد إلا الدنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها.